الإكثار من الاستغفار والآثار الواردة في ذلك
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة )، قال: (وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ) )، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله في اليوم مائة مرة!قال: (وفي المسند عن حذيفة قال: قلت: ( يا رسول الله! إني ذرب اللسان، وإن عامة ذلك على أهلي ) )، والناس على طباع، فبعضهم طبعه الحلم، وبعضهم طبعه الأناة، وبعضهم طبعه العجلة، وبعضهم طبعه الغلظة، وهكذا جعل الله الطباع، فـحذيفة رضي الله تعالى عنه جاء يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لسانه ذرب، أي: يقول كلاماً لا يريد أن يقوله، ويقول: (وإن عامة ذلك على أهلي) أي: لا يؤذي المسلمين، ولكن يجعله على أهله، ولكن الأهل ينبغي أيضاً أن لا يصيبهم ذلك، وإنما يكون المرء معهم كما قال صلى الله عليه وسلم: ( خيركم خيركم لأهله ).(فقال صلى الله عليه وسلم: ( أين أنت من الاستغفار؟! إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ) ) قال: (وفي سنن أبي داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب ) ).وهذا المعنى تدل عليه الآيات المتقدمة، وفيه فوائد عظيمة، وهي غنيمة باردة، وجدير بالمؤمن أن لا تفوته أبداً وأن يكثر منه، وإن كان لابد له من أن يقارف شيئاً من الذنوب، لكن أكثر من الاستغفار فإن ذلك يمحو الذنوب ويقللها بإذن الله تعالى.أما أبو هريرة رضي الله عنه فقال: [ إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم ألف مرة، وذلك على قدر ديتي ]، يعني: يعتق نفسه فيدفع الدية كل يوم؛ إذ غاية ما يفعل السيد بالعبد الآبق الذي انفلت منه وعصاه فقبض عليه أنه يقيده ليخضع لخدمة سيده بجوارحه، فيكون خادماً لسيده مطيعاً، وهذا مقتضى العبودية الدنيوية، وكذلك لو أن عبداً قتل نفساً فإن عليه أن يدفع الدية.فقال: الذنوب والمعاصي تصير بها كالعبد الآبق، فتستحق أن تحبس نفسك، أو تصير بها كمن قتل نفساً، وهذه النفس هي نفسك، كما قال بعض التابعين حين كان يقوم الليل ويبكي، فتقول أمه: يا بني! أقتلت نفساً؟! قال: نعم يا أماه، قتلت نفسي. أي: ولا يفعل هذه الضراعة والبكاء إلا من فعل جرماً عظيماً، وهو قتل النفس.فيقول أبو هريرة : إنه قتل نفسه، فيدفع ديتها ألف دينار، فيستغفر الله ألف مرة، وهذا ليس بكثير ولا بصعب على من وفقه الله تعالى لذلك، ولا سيما من كان حاله كحال أبي هريرة رضي الله عنه، فقد ذكر عنه أنه لم يشغله الصفق بالأسواق، وإنما كان ملازماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مما يعطى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأهل الصفة، فكان متفرغاً للذكر وللعلم ولحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: [وقالت عائشة : [ طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً ]، هكذا ذكر ابن رجب رحمه الله، وقد وجدت أن الحديث مرفوع، وهو صحيح إن شاء الله.و(طوبى) إما إنها الجنة أو شجرة في الجنة كما جاء في الحديث، ولا تنافي بينهما، وإما أنها بمعنى السعادة والراحة والطمأنينة لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً.فالخلاصة أن الاستغفار ذكر ودعاء، فلنحرص عليه جميعاً، فالمصر على الذنب نقول له: استغفر وادع الله، فقد يستجيب الله لك دعاءك، فإذا كان الاستغفار ينفع مع المصر لأنه دعاء -ولا يجوز أن يكون العبد مصراً- فكيف بالذي يحقق تمامه وكماله بأن يتوب إلى الله تعالى، وينيب ويقلع عن الذنوب والمعاصي؟! كما قال قتادة : (إن هذا القرآن يدل على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار). وقال بعض العلماء: (إنما مُعَوَّل المذنبين -أي: ما يرجعون إليه ويأوون إليه- البكاء والاستغفار). فمن أهمته ذنوبه أكثر لها من الاستغفار، ومن لم تهمه فهو الذي لا يذكر الله إلا قليلاً، ولا يستغفر الله تعالى إلا قليلاً.